انتفاضة الخبز.. ضحايا أحداث 1984 بتونس يجددون مطلب العدالة ورد الاعتبار

انتفاضة الخبز.. ضحايا أحداث 1984 بتونس يجددون مطلب العدالة ورد الاعتبار
وقفة للتذكير بضحايا انتفاضة الخبز في تونس

بعد أكثر من أربعة عقود على واحدة من أكثر المحطات الاجتماعية إيلاما في تاريخ تونس المعاصر، أعلن عدد من ضحايا أحداث الخبز لسنة 1984 عزمهم تنظيم وقفة احتجاجية أمام المسرح البلدي في العاصمة يوم 3 يناير القادم، بهدف تنشيط فتح ملف لم يُغلق، وأن تذكّر بضحايا سقطوا برصاص السلطة أو ذاقوا مرارة السجن والقمع في انتفاضة شكّلت منعطفا حاسما في علاقة الدولة بالمجتمع.

واختار الضحايا المسرح البلدي للوقوف أمامه احتجاجاً باعتباره فضاء رمزيا في قلب العاصمة، ليكون شاهدا على تمسكهم بحقهم في الذاكرة والاعتراف، ودعوا مختلف مكونات المجتمع المدني والنشطاء والقوى الحية إلى مساندتهم في ما وصفوه بمسار نضالي سلمي متواصل، هدفه إحياء ذكرى الضحايا ومنع طي الصفحة دون محاسبة أو إنصاف، وفق ما ذكرته شبكة "بوابة تونس" الإخبارية الثلاثاء.

رسالة الاحتجاج ليست مجرد استذكار لحدث تاريخي، بل محاولة واعية لجعل الذاكرة الوطنية حية ومتداولة في الفضاء العام، في مواجهة ما يعتبره الضحايا نسيانا رسميا أو تهميشا متعمدا لواحدة من أعنف الانتفاضات الاجتماعية في تاريخ تونس.

ضحايا بلا إنصاف

يرى المشاركون في الوقفة أن مرور الزمن لم يخفف من ثقل الجرح، بل زاده عمقا مع غياب أي مسار جدي للإنصاف، فبالنسبة لهم، لم تتحقق العدالة الانتقالية التي وعدت بها الدولة بعد 2011، وظل ملف أحداث الخبز خارج أولويات المحاسبة ورد الاعتبار.

ويؤكد الضحايا أن مطلبهم الأساسي يتمثل في الاعتراف الرسمي بما جرى، وبمسؤولية أجهزة السلطة في تونس عن سقوط قتلى وجرحى، وعن حملات القمع والاعتقال التي طالت مئات المواطنين، كثير منهم من الفئات الفقيرة والمهمشة.

ولا تقتصر مطالب ضحايا أحداث الخبز على الجانب الرمزي أو المعنوي، بل تشمل أيضا التعويض المادي لعائلات القتلى والمصابين والموقوفين، ويعتبرون أن هذا التعويض ليس منة من الدولة، بل حقاً أصيلاً يعكس اعترافا بالظلم الذي لحق بهم، وبالكلفة الإنسانية الباهظة لسياسات اقتصادية فُرضت بالقوة.

كما يشددون على ضرورة إدراج أحداث الخبز ضمن الذاكرة الرسمية لتونس، سواء في المناهج التعليمية أو في الخطاب السياسي والمؤسساتي، حتى لا تبقى مجرد هامش في كتب التاريخ أو ذكريات فردية متفرقة.

الخبز كشرارة غضب

اندلعت أحداث الخبز في 29 ديسمبر 1983، حين أعلنت حكومة محمد مزالي خفض الدعم على منتجات الحبوب، استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي الذي طالب تونس بتطبيق خطة تقشف قاسية، وكان دعم الحبوب يمثل آنذاك نحو 10 بالمئة من الموازنة العامة للدولة، ما جعل القرار صادما لفئات واسعة من المجتمع.

فور الإعلان عن القرار، قفزت أسعار منتجات أساسية مثل الخبز والدقيق والمعكرونة بنسبة وصلت إلى 110 بالمئة، لينتقل سعر الخبز من 80 مليما إلى 170 مليما في وقت كانت فيه القدرة الشرائية للتونسيين محدودة، والفقر منتشرا في الأحياء الشعبية والجهات الداخلية.

وفي اليوم ذاته، كانت مدينة دوز في الجنوب التونسي أولى المدن التي انتفض سكانها رفضا للزيادات المفاجئة، وسرعان ما امتدت الاحتجاجات إلى مدن وقرى أخرى، قبل أن تصل إلى العاصمة، في موجة غضب اجتماعي غير مسبوقة منذ الاستقلال.

واجهت السلطة هذه التحركات بالقوة، وأعلنت حالة الطوارئ وفرضت حظر التجول يوم 3 يناير، لكن ذلك لم ينجح في إخماد الاحتجاجات التي استمرت بوتيرة متفاوتة، مخلفة قتلى وجرحى وموقوفين في عدد من المناطق.

القمع والرصاص

يتذكر الضحايا تلك الأيام بوصفها لحظات رعب جماعي، حيث واجهت قوات الأمن والجيش المحتجين بالرصاص الحي، وسقط عدد من المواطنين في الشوارع والأحياء الشعبية، في مشاهد ما زالت حاضرة في ذاكرة من عايشوها.

ورغم إعلان السلطة في 6 يناير تراجع الرئيس الحبيب بورقيبة عن قرار رفع أسعار الخبز، فإن ذلك التراجع لم يمح آثار القمع، ولم يتبعه أي تحقيق جدي أو محاسبة للمسؤولين عن سقوط الضحايا.

ويطلق التاريخ الرسمي على تلك الانتفاضة تسمية أحداث الخبز، في توصيف يراه كثير من الضحايا مخففا لحجم المأساة، فبالنسبة لهم، ما جرى لم يكن مجرد أحداث عابرة، بل انتفاضة اجتماعية ضد سياسات اقتصادية مجحفة فُرضت بالقوة، ودُفعت كلفتها من دماء الفقراء.

ويرى الضحايا أن غياب الاعتراف الرسمي بما جرى أسهم في تكريس شعور بالظلم والإقصاء، وجعل عائلات القتلى والمصابين تعيش عقودا من الألم الصامت.

الوقفة كمقاومة سلمية

في هذا السياق، تأتي الوقفة الاحتجاجية المقررة يوم 3 يناير كفعل مقاومة سلمية، يسعى إلى إعادة طرح الأسئلة المؤجلة حول العدالة والذاكرة والمسؤولية، ويأمل منظموها أن تشكل مناسبة لإعادة فتح النقاش العام حول أحداث الخبز، وربطها بالواقع الاجتماعي الراهن، حيث لا تزال قضايا الفقر وغلاء المعيشة والخيارات الاقتصادية المثيرة للجدل حاضرة بقوة.

كما يراهن الضحايا على دعم الأجيال الشابة، التي لم تعش تلك الأحداث، لكن تعاني اليوم من تداعيات خيارات اقتصادية مشابهة، في ظل أزمات متكررة وارتفاع متواصل في الأسعار.

تعد انتفاضة الخبز لسنة 1984 واحدة من أبرز الانتفاضات الاجتماعية في تونس بعد الاستقلال، وقد اندلعت على خلفية قرارات اقتصادية مرتبطة بسياسات التقشف وتوصيات صندوق النقد الدولي، وكشفت تلك الأحداث هشاشة العقد الاجتماعي آنذاك، وأظهرت مدى ارتباط الاستقرار السياسي بالعدالة الاجتماعية والدعم الحكومي للمواد الأساسية، ورغم تراجع السلطة عن قرار رفع الأسعار بعد أيام من الاحتجاجات، ظل ملف الضحايا دون معالجة شاملة، ليبقى جرحا مفتوحا في الذاكرة الوطنية، يعود إلى الواجهة مع كل أزمة اقتصادية جديدة، ومع كل مطالبة شعبية بالكرامة والإنصاف.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية